بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 23 فبراير 2012

مدخل إلى اللسانيات الحديثة ـــ البحث اللساني عند الهنود

الدراسات اللسانية عند الهنود
                                                            أ.حسين دحو[1]
توطئة
×يبدو أن التعرف على صلات القربى اللغوية بين السنسكريتية واللغات الأوربية القديمة              والحديثة تحقق بزمان غير يسير قبل أن يؤكد "السير وليام جونس" ذلك، وكان المبشرون الكاثوليك قد أشادوا بذلك التشابه حوالي القرن 16م ممثلين في  "فيلبوساستي" الايطالي والأب "كوردو" الفرنسي و"شولز" الألماني[2]، وكان لهذه الفكرة أصداء واسعة عشية إعلان "السير وليام جونس"  لآرائه في القرابة اللغوية، والظاهر أن دوافع غير علمية لم تخل من روح الاستعمار هي التي حملت العلماء الألمان على الاهتمام بالدراسات التاريخية المقارنة ، وتعلم السنسكريتية لغة وأدبا، والدعوة إلى تعلمها في الجامعات الألمانية  والإنجليزية والفرنسية [3]،أما ترجمة الأدب الهندي القديم إلى اللغات الأوربية فقد بدأن منذ عام 1808م ، وهذا يقودنا حتما إلى الحديث عن الجهود الهندية القديمة في البحث اللساني وخدمة اللغة السنسكريتية ببناء منظومتها النحوية إلى درجة جعلت المعاصرين يبهرون بالمنجز اللساني الهندي ،بل يحاول البعض تأصيل الدراسات التالية بالاعتماد على المنوال الهندي [4].
نظرية اللغة عند الهنود
    × الحق أن الدرس الهندي للغة تم في إطار رؤية وصفية تتعامل مع الظاهرة اللسانية بوصفها بنية صوتية وصرفية ونحوية ودلالية، وقد تولد هذا الاهتمام المنقطع النظير في الحضارات القديمة عن شعور ديني أساسة الحفاظ على النصوص الدينية الشفهية التي تمثل الفيدا ذلك الكتاب العقدي الذي ظهر حوالي 1200ـ1000 ق.م ممثّلا عقيدة وشريعة البراهمية[5]، ولعل هذا الحرص تولد عن شعور بتلك الفوارق اللهجية الموجودة في بلاد الهند القديمة والتي تظهر في عادات كلامية متباينة من شأنها التأثير في سلامة نطق النصوص المقدسة أو سوء فهمها، غير أن المثير للاندهاش هو تحول الرغبة الدينية إلى درس منهجي يتخذ من اللغة السنسكريتية موضوعا للدرس ويجعلها بؤرة في اهتمام التفكير الهندي القديم، كما أن تلك الآراء الثاقبة التي وصلتنا عن طريق "بانيني" تنم عن مرحلة جد متقدمة نشأ فيها هذا الاهتمام ،ثم تطور ليصل ناضجا مع قواعد المثمن (الكتب الثمانية)، بل أن هذه القواعد سرعان ما تركت أثرا في التنظير النحوي للغات أخرى كالتاميلية وهي لغة درافيدية في وسط جنوب الهند (ت2ق م) والتيبيتة.

×أما عن مجالات الاهتمام اللغوي عند الهنود فيمكن تفريعها إلى:
uاهتمامات تدخل في صميم النظرية اللسانية العامة
 vاهتمامات تدخل في علمي الدلالة والمعجم.
w اهتمامات صوتية .
xاهتمامات صرفية ونحوية .
×فبالنسبة إلى مشكلة نشأة  اللغة سرعان ما تحقق علماء الهنود من الدور المحدود جدا الذي يمكن أن يقوم به عامل المحاكاة الطبيعية في اللغة، وأن العلاقة العرفية ومبدأ التواضع الاجتماعي هو العلاقة النموذجية في ظهور اللغة وتطورها، ويبدو أن هذا الموقف أسس على شعور باعتباطية العلاقة بين اللفظ ومعناه، كما تلمس الهنود في اللغة طبيعتها الخلاقة في التعبير عن المعاني اللامنتهية انطلاقا من مصادر محدودة، كما أن المعاني التي تتخذها اللفظة الواحدة كثيرة بالنظر إلى تعدد السياقات التي ترد فيها تلك اللفظة أو غيرها، وفي  هذا السياق ناقشوا الفرق بين الحقيقة والمجاز وحدود كل منهما في اللغة. ولعل المهتم في الفكر اللغوي الهندي يصاب بالحيرة العلمية وهو يطالع آراءهم في قضية أولية الكلمة في مقابل أولية الجملة وارتباطهما بالمعنى  ففي حين ذهب البعض إلى أن الكلمة هي أصغر وحدة دالة في اللغة،ذهب آخرون وفي مقدمتهم اللغوي الشهير " بهاتر هاري" مؤلف "الفاكيا بيديا" إلى أن الجملة هي الوحدة الدلالية الدنيا في اللغة بوصفها قولا غير قابل للتجزئة دلاليا فجملة "أجلب حطبا من الغابة" لا يمكن أن تفهم من خلال الكلمات وهي منفصلة بل وهي متضامة مركبة وفق هذه العلاقات النحوية[6].
×كما ناقش الهنود الفروق الكائنة بين اللغة والكلام في نظرية "السبهوطا" أمميزين بين ما هو حدث فعلي وتحقق فردي وبين ما هو موجود دائم غير متجسد .
×وفي مجال الصوتيات ترك الهنود ملاحظات جد صائية في وصف نظام لغتهم الصوتي اعتمادا على مبدأ السماع، ويعتقد بعض الباحثين أن هنري سويت مؤسس الصوتيات الإنجليزية قد بدأ  درسه الصوتي من حيث انتهى الهنود، ويؤرخ لهذه الأعمال ما بين 8 ق.م و150 ق. م .
×ويمكن أن نطّلع في هذا الإطار على وصفهم للجهاز النطقي من خلال تقسيم أعضاء النطق إلى أعضاء فموية(أسنان، لسان، شفتين، أو أعضاء غير فموية (مزمار، رئتين، فراغ أنفي)، ويبدو إدراكهم لأثر هذه الأعضاء في تحديد صفات الصوت اللغوي واضحا فيما وصل من آراء، كما قسموا الأصوات إلى أصوات أنفية وغير أنفية ؛ أما منهجهم في وصف الأصوات فقد انطلق من أقصى الحلق إلى الشفتين، كما قسموا الأصوات بسبب وضعية الإعاقة التي تعترض الهواء أثناء النطق  مما جعلهم يميزون بين أصوات صوامت وقفية وأنفية واحتكاكية وأشباه صوائت وصوائت.
       وقد تم التمييز بين الجهر والهمس بالرجوع إلى انغلاق أو انفتاح المزمار ،وإلى جانب هذه الاهتمامات الصوتية ألمح الهنود إلى وجود ثلاث نغمات في السنسكريتية الفيدية وهي النغمة العالية والمنخفضة والهابطة ، كما تحدثوا عن المقطع وطول ومدة الصوت أثناء النطق به[7].
من أعلام المدرسة الهندية القديمة
      ×يقول بلومفيلد : "...يعد بانيني معلما من أعظم معالم الذكاء الإنساني ...." [8]؛ذلك أنه قدم عرضا شاملا ودقيقا للقواعد الصرفية والنحوية للغة السنسكريتية بوصفها من أقدم لغات الأسرة الهندو أوربية [9]، ويقول روبنز: "إن هذه القواعد ليست قواعد عارية يمكن أن تكون كاملة ، وربما يجب وصفها بشكل أفضل على أنها صرف توليدي للغة السنسكريتية ".. ويبدو أن هذا الوصف الذي قدمه "روبنز" له ما يبرره ذلك أنه قدم هذه القواعد في تعابير قصيرة مثل الأقوال المأثورة في مضمونها تعريفات ووصفا لعمليات صياغة الكلمة، وقد أطلق على هذه القواعد بـ السوترة ،و علق أحد العلماء على هذا الاقتصاد في صياغة القواعد بقوله:" إن توفير نصف طول صائت قصير في صياغة قاعدة قواعدية كان يعني للقواعدي ما يعنيه ميلاد طفل" وربما يكون هذا الولوع بالاقتصاد ثمرة ومحصلة لنمط المعرفة الذي استوعبته الثقافة الشفوية والحفظ عن ظهر قلب في تلك المرحلة التاريخية غير أن هذه القواعد في شكلها  غير صالحة للتدريس كما هي، بل لابد من عمل ذهني يستهدف شرحها وتوضيحها، وهو ما دفع "باتنجالي" النحوي الهندي الشهير إلى كتابة "المهابها صهيا" أو "التعليق الكبير"،وقد بين الهنود في إطار دراساتهم النحوية أن الكلمة تنقسم إلى أسماء وأفعال متصرفة وحروف جر وأدوات، ويشترط الهنود شروطا لمقبولية الجملة هي :توافر عناصر  هي: إمكانية التوقع المتبادل والمناسبة الدلالية والتجاور في الزمان كما بيّنوا انقسام الفعل في لغتهم إلى ماض وحاضر ومستقبل وعرفوا المفرد والمثنى والجمع منذ عصر مبكر مثلما أشار إلى ذلك أحمد مختار عمر  «أما بانيني فقد كان تقسيمه للكلمة في البدء ثنائيا فهو لم يذكر إلا الفعل في الدائرة الأولى وجعل في الدائرة الثانية ما ليس بفعل كالأسماء والحروف »[10] ولعل مفهوم الصفر اللغوي الذي تتمايز به الأحداث النحوية يأتي في مقدمة ما أبدعه بانيني للفكر اللساني عامة لازالت أصداؤه إلى يومنا في دراسات البنويين فجنس الفعل مثلا يتحدد في لغتنا بأحد أمرين بتاء التأنيث أو خلوه منها[11] كما اهتدى التفكير الهندي في النحو إلى نوع من الكلمات بجمع بين الخصائص الفعلية والاسمية وهو ما يقابل عندنا "اسم الفعل" كما أشاروا إلى دلالة الحروف في ذاتها أو في غيرها.هذا بالنسبة إلى النحو أما علم الأصوات فقد كان علما مستقلا عندهم أولوه عناية فائقة للسبب الديني الذي أتينا على ذكره     ــ سابقا ــ وتبرز إسهاماتهم في جوانب كثيرة أهمها تقسيم الأصوات بسبب مخارجها وصفاتها ودور الحنجرة في حدوثها، وقد كان تقسيمهم على ما يبدو مبنيا على درجة تقارب أعضاء النطق عند العملية، وقد ألمح إلى هذه الفكرة الدكتور السعران في كتابه علم اللغة مقدمة إلى القارئ العربي [12] .ومما تجدر الإشارة إليه هو احتواء الأبجدية الهندية على 51 حرفا .
البحث المعجمي.
         ×لم يهتم الهنود بالدراسة المعجمية والظاهر أن سبب ذلك الخوف على نطق السنسكريتية كان أكثر وأقوى درجة من الخوف على عدم فهمها، ولكونها لغة فتة معينة وليست لغة عامة الشعب، ولعل أولى الأعمال القليلة في هذا المجال ارتبطت بشرح الكلمات الصعبة في الفيدا في العصور المتأخرة نسبيا في شكل معاجم معاني وهو " الأماراكوزا" وقد ألمع "محمود جاد الرب" في كتابه "علم اللغة نشأته وتطوره"  إلى وجود معجم مهم ظهر حوالي القرن 11م[13]. ومما يرتبط بالجانب الدلالي العلاقة بين اللفظ والمعنى فمن الهنود من ذهب إلى وجوب الفصل بينهما على طرفي نقيض ومنهم من رأى ضرورة المطابقة وعدم الفصل ورأى فيها وجهين لحقيقة واحدة فأحدهما ضروري للآخر [14]بالمعنى الحديث في لسانيات سوسير وتلامذته، .كما نرى آخرين أغوتهم المحاكاة الصوتية والرمزية اللغوية للتأكيد الشديد على الطبيعة الفطرية للغة في مقابل القائلين بعرفيتها وخضوعها لمبدأ المواضعة البشرية[15].ونشير في عجالة للموضوعات الأخرى التي ناقشوها بجدية وهي: التطور الدلالي للكلمة، و الدلالة الأساسية في مقابل المجازية، وأهمية السياق في إيضاح المعنى [16].




[1] أستاذ علوم اللسان (البلاغة والأسلوبية) ـ بقسم اللغة والأدب العربي بجامعة ورقلة (الجزائر).
-BLOOMFILD .LANGUAGE .P11[2]
[3] محمود السعرا ن، علم اللغة ،ص93.
[4] جورج مونان ، تاريخ علم اللغة ، ص 64 .
  BLOOMFILDE ;language ;p10 [5]
[6] روبنز ، موجز تاريخ علم اللغة في الغرب ، ص231.
[7] عبد الرحمن الحاج صالح ، مدخل إلى علم اللسان الحديث ، ص37-38
 Bloom filde  p 11.[8]
[9] أحمد مختار عمر ، البحث اللغوي عند الهنود ،ص344 .
[10] مدخل إلى علم اللغة ، ص249.
[11] المرجع نفسه ،ص250.
[12] محمد السعران ،علم اللغة مقدمة إلى القارئ العربي ، ص88-91
[13] محمود جاد الرب ، علم اللغة نشأته وتطوره ، ص23
[14] علم الدلالة ،ص19.
[15]  روبنز ،موجز تاريخ علم اللغة في الغرب ، ص229.
[16]  المرجع نفسه ،ص230.

هناك تعليق واحد:

  1. السلام عليكم يا أستاذ، لقد استفدت كثيرا من المحاضرة، شكرا جزيلا.

    ردحذف